صنع هذا الارغن في برلين سنة 1983 وقضى القرن العشرون كله في فلسطين، وها هو اليوم يشهد بزوع عاما جديدا. في بداية العام كان لقائي معه.
قلت له: حدثنا يا أرغن عن أول انطباعاتك عن مدينتنا بيت لحم!
قلت له: حدثنا يا أرغن عن أول انطباعاتك عن مدينتنا بيت لحم!
قال: لقد رأيت بيت لحم أكبر مما توقعت… فأنتم ترتلون دائما عن بيت لحم، القرية الصغيرة. ولكنني فوجئت أن عدد سكانها تجاوز الأربعة الآلاف، كما وكانت الكنيسة التي وضعت فيها، كنيسة الميلاد، من أجمل كنائس المنطقة برمتها، ولكن ما أحزنني هو قلة أعداد المرتلين والذين بلغ عددهم الأربعين عضوا فقط، كما ولم يكن ترتيلهم حسبما توقعت، بل جاء باهتا ..
هنا قاطعت الأرغن قائلا:
إن قصتك مثيرة، ولكن أخشى أن مفهومك عن الوقت يختلف عن مفهومنا اليوم، فلقد عشت أنت في زمن كان الحكواتي يجمع الناس يقص عليهم قصص ألف ليلة وليلة لساعات طويلة، دون أن يبدوا حراكا، ولكن في عصر التلفاز الوضع تغير… فإذ أكملت أنت قصتك على الوقع ذاته، أخشى أن يظن القراء بأن قصتك ستصبح كالمسلسلات المكسيكية، لا من حلقتين بل من مائة حلقة وحلقة، فهل بإمكانك الاختصار…
قال: وماذا تريد أن تعرف عني؟
قلت: خبرني عن رحلتك الأخيرة إلى الولايات المتحدة.
- لقد كانت حياتي صعبة… وعشت بمرض مزمن في رئتي، بل كان عندي مشاكل في التنفس، ففي القديم ..القديم كان الشباب ينفخون يدويا في رئتي الهواء كي أستطيع التنفس والصفير، ولكن ومع مرور الوقت تراجعت حالتي هذه، فأتوا لي بطبيب ألماني، قال أن هناك موتورا كهربائيا لا بد وأن يربط بي فيضخ الهواء آليا إلى رئتي… فربطوني به… وتحسنت حالتي كثيرا، إلا أنني عدت وانعكست وصار الجمهور يلاحظ تدهورا في حالتي الصحية، فقد خشن صوتي بل ومع مرور الزمن أصبح صوت الشهيق والزفير أعلى عندي من صوت الترنيم، فقلت في نفسي… ما الفائدة، لقد خدمت لمائة عام، فاركن واسترح ونم في أمان... وهكذا صار، فانزويت على نفسي وانطويت على ذاتي وعشت وحيدا، لم يزرني فيها أحد بل راح الغبار يتكاثف علي رويدا .. رويدا، وقلت في نفسي لا بد أن يأتي يوم يظن القسيس بأنك قد أصبحت عبئا على الكنيسة ومصدر إزعاج فيتخلص منك فتنتهي قصتك في المزبلة…
ولكن وفي أحد الأيام زارني طبيب أمريكي قال بأن هناك أملا في شفائي ولكن الأمر مكلف… ورزقني الله بالعديد من المتبرعين الذين جعلوا مما تيسر لهم لينفقوا على عملية قيل لي أنها ستعيد الشباب إلي… وفعلا جاء الطبيب وشرحني إلى قطع، ودفعت في صناديق نقلت بواسطة سفن حديثة ليست كتلك التي جئت بها الى فلسطين، فنقلت من ميناء حيفا إلى ميناء بوسطن، ومن ثم بناقلات سريعة وعملاقة إلى ولاية منيسوتا حيث وضعت في مزرعة بل معمل وهناك أجريت لي عملية جراحية استمرت زهاء الأشهر الستة اشهر، حيث أصلحت صفاراتي القديمة الخربة، وزرعت لي أعضاء جديدة كثيرة، ونلت حياة جديدة… وأصبحت في ليلة وضحاها، أصبحت خلايا جسدي تعمل بالتقنية الرقمية، وهي تقنية القرن الحادي والعشرين. جرى دم جديد في عروقي وكان الله قد كتب لي أن أعيش قرنا آخر…
وهنا رأى الأرغن في عيني فرحة ممزوجة بالحزن، فتابع كلامه:
أنا أفهمك… فأنت تفرح معي بأنني قد تجددت، كما يفرح الأب مع ابنه الضال الذي كان ميتا فعاش …
ولكنني أفهم حزنك… ربما تود لو كان بإمكان الطب البشري أن يزرع في الإنسان خلايا رقمية فيعيد له شبابه…
بل لا تتصور يا بني ما يدور أحيانا كثيرة في مخيلتي… دوري صعب ودعوتي ليست بالسهلة … أن أعزف لطفل وليد جديد يوم معموديته "يا رب طفل قد أتاك.."، وأن أعزف له يوم زواجه "أحضر هنا يا ربنا…"، ومن ثم أعزف له يوم دفنه "أمكث معي يا سيدي…"
ليس سهلا أن تتعود على أناس، تحبهم، ومن ثم تفارقهم… ولكن هذه سُنة الحياة، وأعزي نفسي بالقول بأن عزفي وترنيمي إنما يروحان عن النفس ويدخلان إليها السرور…
قلت: لله اسرار في خلقه… فنحن الآن على أبواب عام جديد، وقد رحت تتحدث عن الموت…
قال: "من لا يفهم الموت، لا يعرف الحياة …
قلت : حدثني عن أصدقائك.. هل كان لك أصدقاء أكثر…
وهنا صمت الأرغن قليلا، أخذ نفسا عميقا وكأنه راح يرجع بمخيلته إلى حياته القديمة ليتذكر، ومن ثم قال لي:
لقد منحني الله أصدقاء كثيرين، أخلصوا لي كل الإخلاص.. بل إن حياتي من دونهم هي هباء ليس إلا…
قلت: " أنا أعرف أن الصداقة أمر شخصي، قد لا تريد أن تتحدث عنه علانية.
قال: لا بل دعني أحدثك باختصار عن بعض اللحظات التي لا تنسى لي مع أصدقائي…
فهنا ومع صوت صفاراتي تم نظم العديد من الترانيم التي ترنمونها دون أن تعرفوا تاريخها… اسألوني أحدثكم…
فلا أنسى مثلا الفرحة التي غمرت احد اصدقائي وهو يرنم:
" يا نفس قومي بالعجل ها قد بدت شمس الصباح
اتركي التواني والكسل واسعي إلى رب الصلاح"
لقد صرخ بغتة وهو يعزف على صفاراتي: وجدتها … وجدتها، وكان يحلو له العزف كل يوم في الصباح الباكر، وكأن اليوم لا يحلو له بعيدا عن أنفاسي…
بل وهل تعرف أن هذا الصديق بعينه كان قد نظم في هذه الكنيسة وعلى أنغامي ترنيمته المشهورة:
" كنت أسيرا في الأنام ، والعدل قاض بالقصاص
ففكني فادي الأنام ، وقال لي نلت الخلاص…
وينقصني الوقت كي أحدثك عن ترانيم القس سعيد عبود، ووديع خوري وإبراهيم ووديع عطا، وأن أنسى فلن أنسى المرحوم توفيق سرور خاصة بجوقته الرنانة في أسبوع الآلام، أو جوقة أبواقه الرخيمة، صباح عيد القيامة. وماذا أقول عن المرحوم فهمي الهواش وكرستا نصرالله، أو عن الأستاذ ميخائيل زبانة أو فهد أبو غزالة أو جورج أبو دية وغيرهم… بل يسرني أن قد أصبح لي أيضا أصدقاء جدد من الولايات المتحدة الذين أرجو أن نلتقي وأطرب على معزوفاتهم…
قلت: لله اسرار يا أرغن.. قصتك جميلة تشد لها النفوس، ولكن هل من نصيحة في صباح هذا اليوم الأول من السنة الجديدة، هل من نصيحة تسديها إلينا؟
لم يتوان الأرغن، بل نظر إلي متفحصا إن كنت سأعمل بنصيحته، وقال لي من دون تردد:
"الحياة غنوة…الحياة غنوة، قد تملأها بالبكاء والعويل، وأعرف أنكم ايها البشر تحبون البكاء على الأطلال، ولكن الحياة غنوة "بإمكانك أن تجعل منها كابوسا … صراعات زوجية في الصباح والمساء، مشاحنات ومخاصمات مع الأهل والأصدقاء، كراهية وبغضاء، حرب وصدام… ولكن الحياة غنوة تستطيع أن تجعل أنغامها حلوة، أنت العازف وأنت الناظم، وأنت المايسترو..أنت تتحكم بزمام الأمور… إذا لم يعجبك اللحن القديم، إجلس وأكتب لحنا جديدا…
ودعني أنهي بنصيحة ثانية:
أكثر من الترنيم … فالترنيم يجدد قوة الإنسان، إذا كنت فرحا فترنم… ولكن إن كنت حزينا، وحيدا، مريضا، خائفا، حائرا، محتاجا، تعبا فترنم أيضا…فالترنيم هو سر الحياة… لذلك الأبدية سنقضيها بالترنيم لا تجعل شيئا في الدنيا يسلبك ترنيمك…بل اجعل وقت ترانيمك يكون هو وقت حياتك.
وهنا قاطعته: وقلت له: "أرى يا أرغن أنك واعظ مؤثر… وسأعدك: أنني سأرجع لأسمع منك مرة أخرى… ولكن الان أستودعك الله…" وتركته وكلماته تطن في أذني…
"لا تسمح بأن يسلبك أحد ترنيمتك… "
وقلت في نفسي: "هذا سيكون شعاري للعام الجديد.".
منقول بتصرف عن:
www.mitriraheb.org